فصل: تفسير الآيات (3- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (3- 5):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل، وكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا.
قوله تعالى: {وَيَتَّبِعُ} أي: يتبع في جداله في الله بغير علم، {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} والمريد: المتمرد المستمر في الشر. {كُتِبَ عَلَيْهِ} قضي على الشيطان، {أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ} اتبعه {فَأَنَّهُ} يعني الشيطان، {يُضِلُّهُ} أي: يضل من تولاه، {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} في شك {مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} يعني: أباكم آدم الذي هو أصل النسل، {مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: ذريته، والنطفة هي المني، وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف، {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهي الدم الغليظ المتجمد، وجمعها علق، وذلك أن النطفة تصير دما غليظا ثم تصير لحما، {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ، {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}.
قال ابن عباس وقتادة: {مخلقة} أي تامة الخلق، {وغير مخلقة} غير تامة أي ناقصة الخلق.
وقال مجاهد: مصورة وغير مصورة، يعني السقط.
وقيل: المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته، وغير المخلقة السقط.
روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة، قذفها الرحم دما ولم تكن نسمة، وإن قال: مخلقة، قال الملك: أي رب أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض يموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته.
{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة.
وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة.
{وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ} فلا تمجه ولا تسقطه، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة. {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من بطون أمهاتكم {طِفْلا} أي: صغارا، ولم يقل: أطفالا لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد. وقيل: تشبيها بالمصدر مثل عدل وزور. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} يعني: الكمال والقوة.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} من قبل بلوغ الكبر، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي: الهرم والخرف، {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أي: يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئا.
ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً} أي: يابسة لا نبات فيها، {فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} المطر، {اهْتَزَّتْ} تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها، {وَرَبَتْ} أي: ارتفعت وزادت، وقيل: فيه تقديم وتأخير معناه: ربت واهتزت وربا نباتها، فحذف المضاف، والاهتزاز في النبات أظهر، يقال: اهتز النبات أي: طال وإنما أُنِّت لذكر الأرض. وقرأ أبو جعفر: {وربأت} بالهمزة، وكذلك في حم السجدة، أي: ارتفعت وعلت.
{وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: صنف حسن يبهج به من رآه، أي: يسر، فهذا دليل آخر على البعث.

.تفسير الآيات (6- 8):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)}
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: لتعلموا أن الله هو الحق، {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني النضر بن الحارث، {وَلا هُدًى} بيان {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}.

.تفسير الآيات (9- 11):

{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)}
{ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي: متبخترا لتكبره. وقال مجاهد، وقتادة: لاوي عنقه. قال عطية، وابن زيد: معرضا عما يدعى إليه تكبرا. وقال ابن جريج: يعرض عن الحق تكبرا. والعطف: الجانب، وعطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء، نظيره قوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا} [لقمان: 7]، وقال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم} [المنافقون: 5]. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الله، {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عذاب وهوان، وهو القتل ببدر، فقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} ويقال له: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} فيعذبهم بغير ذنب وهو جل ذكره على أي وجه شاء تصرف في عبده، فحكمه عدل وهو غير ظالم. قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله، قال: هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وقل ماله، قال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة فأنزل الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أكثر المفسرين قالوا: على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه، نحو حرف الجبل والحائط الذي كالقائم عليه غير مستقر، فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف لأنه على طرف وجانب من الدين لم يدخل فيه على الثبات والتمكن وأصله كالقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر، يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه، ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف، قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة في جسمه، وسعة في معيشته، {اطْمَأَنَّ بِهِ} أي: رضي به وسكن إليه، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} بلاء في جسده، وضيق في معيشته، {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر، {خَسِرَ الدُّنْيَا} يعني هذا الشاك خسر الدنيا بفوات ما كان يؤمل، {وَالآخِرَةَ} بذهاب الدين والخلود في النار. قرأ يعقوب {خاسر} بالألف {وَالآخِرَةَ} جر. {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الظاهر.

.تفسير الآيات (12- 13):

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ} إن عصاه ولم يعبده، {وَمَا لا يَنْفَعُهُ} إن أطاعه وعبده، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} عن الحق والرشد. {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} هذه الآية من مشكلات القرآن وفيها أسئلة:
أولها قالوا: قد قال الله في الآية الأولى {يدعو من دون الله ما لا يضره}، وقال هاهنا: {لمن ضره أقرب}، فكيف التوفيق بينهما؟
قيل قوله في الآية الأولى {يدعو من دون الله ما لا يضره} أي: لا يضره ترك عبادته، وقوله: {لمن ضره أقرب} أي: ضر عبادته.
فإن قيل: قد قال: {لمن ضره أقرب من نفعه} ولا نفع في عبادة الصنم أصلا؟.
قيل: هذا على عادة العرب، فإنهم يقولون لما لا يكون أصلا بعيد، كقوله تعالى: {ذلك رجع بعيد} [ق:3] أي: لا رجع أصلا فلما كان نفع الصنم بعيدا، على معنى: أنه لا نفع فيه أصلا قيل: ضره أقرب، لأنه كائن.
السؤال الثالث: قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ} ما وجه هذه اللام؟ اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هي صلة، مجازها: يدعو من ضره أقرب وكذلك قرأها ابن مسعود. وقيل: {لمن ضره} أي إلى الذي ضره أقرب من نفعه. وقيل: {يدعو} بمعنى يقول: والخبر محذوف، أي يقول: لمن ضره أقرب من نفعه هو إله.
وقيل: معناه يدعو لمن ضره أقرب من نفعه يدعو، فحذف يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى، ولو قلت: يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب، ثم يحذف الأخير جاز.
وقيل: على التوكيد، معناه: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه.
وقيل: {يدعو من} صلة قوله: {ذلك هو الضلال البعيد} يقول: ذلك هو الضلال البعيد يدعو، ثم استأنف فقال: {لمن ضره أقرب من نفعه} فيكون {من} في محل رفع بالابتداء وخبره: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي الناصر. وقيل: المعبود. {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي: الصاحب والمخالط، يعني: الوثن، والعرب تسمي الزوج عشيرا لأجل المخالطة.

.تفسير الآيات (14- 15):

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)}
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} يعني نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} بحبل {إِلَى السَّمَاءِ} أراد بالسماء سقف البيت على قول الأكثرين، أي: ليشدد حبلا في سقف بيته فليختنق به حتى يموت، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} الحبل بعد الاختناق. وقيل: {ثم ليقطع} أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا، {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} صنيعه وحيلته، {مَا يَغِيظُ} {ما} بمعنى المصدر، أي: هل يذهبن كيده وحيلته غيظه، معناه: فليختنق غيظا حتى يموت. وليس هذا على سبيل الحتم أي: أن يفعله لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت، ولكنه كما يقال للحاسد: إن لم ترض هذا فاختنق ومت غيظا.
وقال ابن زيد: المراد من السماء السماء المعروفة.
ومعنى الآية: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله، فإن أصله من السماء، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل.
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف، وقالوا: لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود، فلا يميروننا ولا يئوننا فنزلت هذه الآية.
وقال مجاهد: النصر بمعنى الرزق والهاء راجعة إلى {مَنْ} ومعناه: من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة. نزلت فيمن أساء الظن بالله عز وجل وخاف ألا يرزقه الله، {فليمدد بسبب إلى السماء}، أي: إلى سماء البيت، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ، وهو خيفة أن لا يرزق.
وقد يأتي النصر بمعنى الرزق، تقول العرب: من ينصرني نصره الله. أي: من يعطني أعطاه الله، قال أبو عبيدة: تقول العرب: أرض منصورة، أي: ممطورة.
قرأ أبو عمرو، ونافع، وابن عامر، ويعقوب: {ثم ليقطع} {ثم ليقضوا} بكسر اللام، والباقون بجزمها لأن الكل لام الأمر، زاد ابن عامر {وليوفوا نذورهم وليطوفوا} [الحج: 29] بكسر اللام فيهما، ومن كسر في: {ثم ليقطع} وفي {ثم ليقضوا} فرق بأن ثم مفصول من الكلام، والواو كأنها من نفس الكلمة كالفاء في قوله: {فلينظر}.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
{وَكَذَلِكَ} أي: مثل ذلك، يعني: ما تقدم من آيات القرآن، {أَنزلْنَاهُ} يعني: القرآن {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني: عبدة الأوثان، {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} يحكم بينهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم، وقيل: {أَلَمْ تَرَ} تقرأ بقلبك {أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}.
قال مجاهد: سجودها تحول ظلالها. وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وقيل: سجودها بمعنى الطاعة فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله خاشع له مسبح له كما أخبر الله تعالى عن السموات والأرض {قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]، وقال في وصف الحجارة {وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74]، وقال تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]، وهذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة.
قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أي: من هذه الأشياء كلها تسبح الله عز وجل: {وكثير من الناس}، يعني المسلمين. {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل. والواو في قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} واو الاستئناف.
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} أي: يهنه الله {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي: من يذله الله فلا يكرمه أحد، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي: يكرم ويهين فالسعادة والشقاوة بإرادته ومشيئته.